وتعتبر قرية "باعدري" واحدة من كبريات القرى الإيزيدية، وهى تقع على حدود محافظة الموصل في الشمال العراقي، ولقد قمت بزيارتها في شهر يناير من العام 2015. وفي تلك الأثناء تحولت القرية إلى مركز إيواء للإيزيديين الذين تم إنقاذهم من هجمات تنظيم "داعش" الإرهابي. وكانت تقيم في القرية المذكورة بعض الإيزيديات اللاتي تعرضن للاغتصاب على يد عناصر التنظيم، وتم بيعهن، ثم تمكن من الهرب فيما بعد. وجدير بالذكر أن بعضهن لم تقبل عائلاتهن عودتهن مرة ثانية؛ لذلك اضطررن للبقاء في مركز الإيواء بالقرية.
اليوم الذي زرت فيه قرية "باعدري" كان باردًا للغاية، فقد كان الشتاء قارسًا. وبعد أن استمعت لحكايات تقشعر لها الأبدان قصتها علي النساء الإيزيديات، حاولت ليلًا أن أبيت مع الشابات، والأطفال من الإيزيديات في غرفة ببيت شيخ الإيزيديين. فالغرفة لم يكن بها المزيد من مظاهر الحياة. ولقد أعطوني عندئذ وسادة مطرزة بالدانتيل الوردي كي أنام عليها فوق سرير أرضي.
هذه الوسادة كانت تخص طفلة إيزيدية كانت تحت الحماية بالمنزل لأنها فقدت جميع أفراد عائلتها، كانت قد أتت بها الطفلة من منزلها الكائن بالموصل قبل أن تتركه. ربما كان هذا الشيء الوحيد أو الذكرى الوحيدة المتبقية لها من منزل العائلة الذي غادرته مجبرة بعد أن ظلت وحيدة بموت أفراد أسرتها، لقد كانت أيضًا الشيء الوحيد المتبقي من أطلال المنزل وأنقاضه. وفي الغرفة التي كنت أقيم فيها كانت تبدو من نافذة صغيرة تقع بمقابلي الأضواء المتناثرة القادمة من الموصل. وأثناء نومهن كان الأطفال والنساء الإيزيديات يأنون، كنت أسمع بأذني آناتهم في ظلام الليل. ما دفعني للتساؤل بيني وبين نفسي وأنا أسمع هذه الأصوات، وأقول "يا ترى أي عزيز لديهم يرونه يقتل في منامهن".
وفي هذه اللحظات التي يسود فيها ظلام دامس أرجاء المكان، كنت وكأني أسمع أصوات الإيزيديات اللاتي لا زلن محتحزات لدى التنظيم الإرهابي على بعد كيلومترات قليلات تقريبا في الموصل، وهن يتعرضن للتعذيب على يد هؤلاء المجرمين الإرهابيين. وفي مثل هذه الأجواء المخيمة على المكان، لم أضع رأسي على الوسادة ذات الدنتيل الوردي، بل احتضنتها، وضممتها بقوة إلى صدري، وبقيت على حالي أتابع من على بعد الأضواء المنبعثة من الموصل مركز الظلم آنذاك لما كان يجري فيها من أعمال يندى لها جبين الإنسانية.
الوسادة ذات الدنتيل الوردي التي شاهدتها بين حطام منزل العزاء في قرية "أفشه" أعادت إلى مخيلتي كل هذه الذكريات التي قصصتها عليكم. أعادت إلى مخيلتي كل ما يتعرض له الإيزيديون من ظلم وإبادة..
ومن مشاهد الظلم الأخرى بحق الإيزيديين، أنه أغلقت مخيمات لهم كانت قد أنشأتها البلديات التي ترأسها في بعض الأوقات بتركيا حزب المجتمع الديمقراطي الذي تأسس عام 2005، وأغلق بقرار من المحكمة الدستورية عام 2011، تلك المخيمات التي تأسست كذلك بدعم من بعض منظمات المجتمع المدني الناشطة في عدد من الأماكن بالمنطقة.
كما أن جزءًا كبيرًا من الإيزيديين الذين قدموا إلى تركيا، وتقدر أعدادهم الإجمالية بـ30 ألف شخص، قد عادوا إلى جنوب كردستان، و منطقة الإدارة الكردية في شمال سوريا، المعروفة أيضاً باسم "روج آفا". وجزء قليل منهم للغاية تمكن من الذهاب إلى أوروبا. أما من لم يكن لديه جهة يتوجه إليها أو مكان يعود إليه فكانوا يقيمون في مخيم "فيدانلك" الذي أقامته بلدية ديار بكر.
لكن بعد تعيين متصرف على البلديات في ولاية ديار بكر، تم إجلاء الإيزيديين من المخيم المذكور مطلع العام 2017، وتم إرغام نحو ما يقرب من 1200 إيزيدي كانوا هم المتبقين بالمخيم، على الانتقال إلى مخيم تابع لإدارة الكوارث والطوارئ التركية "آفاد" في منطقة "مدياط" بولاية ماردين. في حين أنهم كانوا لا يرغبون بأي حال التوجه إلى ذلك المخيم. لكن لم يكن لديهم أية خيارات أخرى. وفي ذلك اليوم وأثناء إخراجهم من المخيم شبهوا طريقة إجلائهم والدموع تنهمر من أعينهم باليوم الذي هربوا فيه من السنغال.
والآن وبعد مرور نحو عام ونصف العام على هذا الأمر، لا يعلم أي أحد أي شيء عن الإيزيديين الذي نقلوا عنوة لمخيم "مدياط"، إذ لم يسمح لمنظمات المجتمع المدني أو المتطوعين العاملين منذ سنوات في مخيمات الإيزيديين بالدخول إلى المخيم المذكور. حتى إن المؤسسات الوقفية الإيزيدية ليس لديها أدنى علم بما يجري في ذلك المخيم؛ إذ يقولون إنهم لا يستطيعون دخوله. ومن ثم يمكننا القول إن الإيزيديين يعيشون في عزلة تامة داخل المخيم.
وثمة ما يقدر بثلاثين عائلة إيزيدية تحاول أن تتدبر شؤونها بنفسها في مدينة "البشرية" الواقعة شرقي محافظة باطمان، وهي في ذات الوقت عاصمة المحافظة. وفي حديث معي ذكر صديق لي دأب على تقديم المساعدات اللازمة للعائلات الإيزيدية في ذلك المكان، أن هؤلاء الأشخاص في السابق لم يكونوا بحاجة إلى أية مساعدات، لكن بعد تعيين المتصرفين على البلديات في محافظات جنوب شرقي تركيا بالتحديد، باتوا في احتياج دائم للمساعدات بكافة أشكالها. وأشار صديقي إلى أن البلديات أصبحت لا تدعم هؤلاء الأشخاص بالمساعدات، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على أوضاعهم المزرية في الوقت الراهن.
والعام الماضي شهدت قرية "زويرا" التابعة لمدينة "فيران شهر" بولاية شانلي أورفا، جنوبي تركيا، حادثًا تمت فيه عملية هدم مقابر خاصة بالإيزيديين، وتسويتها بالأرض. والآن وفي يوم من أيام شهر رمضان تقوم السلطات المعنية بهدم بيت عزاء ودار عبادة خاصين بالإيزيديين. وها هي الوسادة ذات الدنتيل الوردي تقف شاهدة على ما جرى وسط الأنقاض..
وهذه المرة الإيزيديون ليسوا في مكان بعيد كالموصل، بل هم على مقربة منا يقيمون على أراضي هذه الدولة، وينتظرون منا كافة أشكال الدعم حتى لا يتركوا قراهم، وأراضيهم الخاصة بهم.
فهل يمكننا سماعهم؟ وهل نحن قادرون على رؤية الوسادة ذات الدانتيل الوردي وهي بين الأنقاض؟.
يُمكن قراءة المقال باللغة التركية أيضا: